على شاطئ بحر غزة
بقلم/ خليل نظير اللوقا
دعاني
أحد أصدقائي لأرافقه إلى البحر , فالإجازة الصيفية قد بدأت , ونريدُ أن
نمحي قليلاً من الإرهاق والتعب بعد أيامٍ طوال من المذاكرة والدراسة ,
فلبيتُ دعوته للذهاب معه وتناسيت همومي ومتاعبي وأطلقت العنان لمخيلتي
لتصور جمال البحر ومتعة نسيمه ..
وعندما وصلنا للبحر .. نظرتُ بدهشةٍ
واستغراب !! فكأنما حدث نزوحٌ سكاني هائل , فليس هناك مكانٌ للجلوس ,
والبحر مكتظ ٌ بأطفال وشباب وفتيات .. بحثنا طويلاً لنجد مكاناً نجاور به
البحر , حتى استقر بنا الأمر على بقعةٍ من الشاطئ تبدو خالية ً أو قليلة
الناس ..
ذهب صديقي ليمارس هوايته ويسبح في البحر , وجلستُ على الشاطئ
لأستمتع برؤية الأمواج المتلاطمة , ورفعتُ عيني للشمس .. فكانت تعتلي مياه
البحر الزرقاء , وتصور الناس بشتى أحوالهم ومشاكلهم , فكلٌ ترك همومه
ومشاغله وتجمعوا لهدفٍ واحد هو المتعة والنسيان ..
وبينما كنتُ جالساً
أفكرُ وأتأمل .. قاطعني طفلٌ صغير لا يتجاوز السادسة أو يزيد , يرتدي
ملابساً بالية ويبدو عليه أثر الهم والتعب , طلب مني بصوت خافتٍ ضعيف أن
أشتري بعضاً من الحاجيات , فدبت بقلبي رأفة غربيةً بحاله , وطلبتُ منه أن
يعطيني مسلياً لأتسلى به في جلستي الهادئة , فأعطاني وأخذ ثمنها , ثم ذهب
ليكمل قوت يومه ..
فكرتُ بحال هذا الطفل البريء الذي حُمل أكثر من
طاقته , فالأطفال الذين كُتب لهم أن يعيشوا سنواتهم الأولى للعب واللهو
والمرح , قبل أن تلعب بهم الحياةُ بهمومها ومعقداتها , تراهم اليوم يحملون
هم البيت والأسرة , فيقضون أيامهم ليبيعوا جزءاً بسيطاً من أغراض أطفالٍ
مثلهم , كُتب لهم عكس ما كُتب عليهم ..
وبعد فترةٍ وجيزة .. مرَّ
الطفلُ ذاته من أمامي مرةً أخرى , فناديتُ عليه .. فقال لي : ماذا تريد ؟
فأجبته أني أريد منه الجلوس قليلاً لأتحدث إليه , فرفض وقال أنه يجب أن
يبيع ما معه من أغراض , فقلتُ له : سأشتري منك وسأعطيك ثمناً لجلوسك معي ,
فوافق .. ووضع مبيعاته على رمال الشاطئ الصفراء وجلس بجانبي .. سألته : ما
اسمك وكم عمرك ؟ فأجابني بصوتٍ هزيل : اسمي مُحمد , وأنا في الصف الثاني
الابتدائي .. فقلتُ له لماذا تبيع يا مُحمد ؟ ألا يَجدرُ بك أن تلهو وتلعب
في إجازتك الصيفية القصيرة ؟ فطأطأ رأسه واقتربت عيناه أن تدمع , وقال :
وكيف نعيش يا ... فقلت له : اسمي خليل , ثم أكمل قائلاً : توفي أبي ..
وأنا وشقيقي الأكبر مني بثلاث سنوات نعمل لكي نوفر لأسرتنا قوت يومها ,
فأموال المؤسسات والجمعيات لا تكفي لتُعيل أسرتي .. أثر بي حالُ محمد
كثيراً , فهو ليس وحده في غزة هاشم .. فكثيرٌ من الأطفال يعيشون ذات الحال
الذي كتبه القدر عليهم ..
ولكي أقضي قليلاً على حزن وألم مُحمد ..
سألته عن دراسته , فرفع رأسه ورد بصوت قوي : أنا الأول في الفصل وأحب
الدراسة كثيراً , وعملي في الإجازة ربما يوفر قليلاً من ثمن الملابس
والكتب حتى أكمل دراستي العام القادم , وصمت مُحمد قليلاً ثم قال : أريدُ
أن أذهب .. فشكرته وأعطيته مبلغاً من المال , ردت الابتسامة المفقودة إلي
وجهه , وطلبتُ منه أن يبقى متفوقاً في دراسته وأن يرضى بما كتبه الله عليه
وعلى أسرته من بلاء ..
ذهب مُحمد بما يحمله معه من همومٍ وبلايا ..
وظلت قصته تموج في ذاكرتي , فحاله ليس أفضلُ حالٍ من أطفالٍ دمَّر
الاحتلالُ بيوتهم أو جرَّف أراضي أبائهم , أو قضى الحصارُ على مصادر رزق
عائلاتهم ..
بقيتُ جالساً لوحدي مدةً قصيرة أتذكرُ قصصاً من الماضي ..
حتى خرج صديقي من البحر وجلس معي , فتحدثنا وتكلمنا سوياً .. حتى أوشكت
الشمسُ على الغروب , وفتح البحر جسده ليحتضنها بين جانبيه .. فقمنا لنغادر
إلي بيوتنا .. وتركنا الـبـحـر يتلاطم بأمواجــه الهادرة